بدأت مسيرتي المهنية في بيع قطع غيار سيارات رينو في أوائل الثمانينات. لقد كانت تلك الخطوة بمثابة نقطة تحول مهمة في حياتي، حيث غيرت مجرى الأمور بطريقة لم أتخيلها من قبل. شعرت بشغف كبير لهذا المجال الفريد، مما ساعدني في تحفيز نفسي للتعلم واكتساب المهارات اللازمة لأصبح بائعًا بارعًا في هذا القطاع المفعم بالحيوية والتنافسية. بفضل هذه الكفاءة العالية التي اكتسبتها من خلال تجربتي الواسعة وتفاعلي المتواصل مع العملاء، بدأت ألاحظ كيف أن كبار التجار والموزعين بدأوا يتنافسون فيما بينهم على توظيفي. كان لهذا الأمر تأثير بالغ على ثقتي بنفسى، وزاد من إيماني بقدراتي المهنية وإمكاناتي في السوق الذي كان يتحرك بسرعة.
عندما بدأت أتلقى عروضًا مغرية من بعض الشركات الكبيرة، كانت طلباتي بشكل واضح تشير إلى رغبتي في الحصول على دور كشريك في هذه المؤسسات الرائدة. لكن، وفي لحظة من الصداقة والتفكر، نصحني أحد أصدقائي المقربين بأن أكون حذرًا من هذه العروض الجذابة، حيث أشار إلى أنه قد تكمن هناك مخاطر خفية وراء هذه الفرص البراقة. تحت تأثير هذا التحذير القوي، قررت أن أبتعد عن تلك العروض المغرية التي كانت تثير فضولي، وبذلك بدأت مغامرتي الحقيقية التي كانت تحمل في طياتها العديد من الدروس والعبر القيمّة، وقد شكلت تلك التجربة نقطة انطلاق رائعة لمستقبلي المهني.
في بداية التسعينات، جاء إليّ أحد الحرفاء بفكرة جديدة قد تكون بمثابة قفزة نوعية لمستقبلي. اقترح أن نفتح محلًا مخصصًا لبيع قطع الغيار، وأعطاني وعدًا بتوفير التمويل اللازم لبدء هذا المشروع الطموح. وبالنظر إلى خبرتي الطويلة في هذا الميدان وإلى علاقاتي القوية التي كونتها مع الحرفاء والموردين، شعرت أن قبول هذا العرض هو القرار الصحيح، فقررت أن أبدأ في تجهيز الفكرة وتحويلها إلى واقع. وبعد جهد مشترك، نجحنا في العثور على محل مناسب، وقمنا بتجديده وتكييفه بطريقة تتناسب مع متطلبات العمل واحتياجات الزبائن، وبذلنا عناء كبير لنكون جاهزين لإطلاق المشروع.
وفي هذه الأثناء، اتصلنا بمحاسب محترف لديه خبرة في تأسيس الشركات تساعدنا في تجهيز التراخيص والمستندات اللازمة لتأسيس الشركة تحت أسمائنا. كنت متحمسًا جدًا لهذه الخطوة، إذ كنت أشعر بمعنويات عالية لتحقيق أحلامي. ولكن الأمور تغيّرت بشكل غير متوقع عندما تأكدنا أن التمويل قد أصبح جاهزًا، إذ تلقيت خبرًا محبطًا من االشريك حيث أبلغني أنه لن يتمكن من توفير هذا التمويل في الوقت الراهن. وضعنا ذلك في موقف صعب ومعقد، ويجب علينا أن نتخذ قرارًا مصيريًا. ورغم كل هذه التحديات، قررنا أن نبدأ العمل بدون أي تمويل معين، على أساس أن شركائي سيؤمنون الأموال عند قدوم ابنه من الخارج في وقت قريب. وهكذا استمرت الأمور على هذا النحو، حيث واجهنا العديد من الصعوبات والتحديات، لكننا كنا مصرين على متابعة حلمنا حتى اللحظة الراهنة.بدأ العمل في الشركة بدون أي تمويل وبأموال صفرية، حيث كانت الشركة مملوكة لثلاثة شركاء. كان هناك شريكان هما أخوان يمتلكان معًا ثلثي الأسهم دون أن يدفعا أي قيمة مالية، بينما كنت أنا الشريكة الثالثة التي قدمت الكثير من الجهد والخبرة، والتي تقدر بعشر سنوات، بالإضافة إلى عدد كبير من العملاء والموردين الذين كنت أتعامل معهم سابقًا. مع مرور الوقت، ومع تكريس الجهود، تقبلت الوضع كما هو وبدأت ألاحظ أن الشركة حققت أرباحًا ملحوظة. توسعنا لفتح محل ثانٍ، وقمنا بشراء منزل في منطقة سياحية جميلة بمدينة المهدية، مما جعلني أشعر بالفخر. لم أكن على دراية بأنني كنت أعمل مع مجموعة تمارس الخداع والتحايل في الخفاء.
في عام 2001، تلقّيت إنذارات من المحاسب بضرورة الانتباه، وفهمت لاحقاً أنهم ربما حاولوا إرشائه، لكنه رفض ذلك لأنه رجل أمين.. للأسف، توفي المحاسب في عام 2004، ثم قامت عائلته بتعيين محاسب بديل لم يكن في المستوى المطلوب. استغل شركائي الوضع بعد وفاة المحاسب، وبدأوا في تغيير الحسابات بما يخدم مصالحهم، وبهذا الشكل اتخذوا قرارات لم تكن شفافة. في عام 2008، جاء إليّ شركاؤنا وبشكل غير متوقع ليبلغوني بأن الشركة تعاني من خسائر ضخمة وأنها على وشك الإفلاس.
عندما أخبروني بأن الشركة تواجه هذه الخسائر، شعرت بصدمة كبيرة وخيبة أمل عميقة. فقد كانت معظم الإشارات تشير إلى نمو الشركة والنجاحات التي حققناها سويًا. بدأت أشعر أن كل ما حدث في الفترة الماضية كان مجرد تمويه أو خدعة لتعميتي عن الحقيقة. لم أكن أستطيع تصديق أن تلك الإنجازات كانت مجرد واجهة تغطي على مشاكل داخلية أكثر تعقيدًا. قررت أن أواجههم بكل صراحة وأسأل عن وضع الأموال والأرباح، لكنهم كانوا دائمًا يتجنبون الإجابة بشكل غريب ويختلقون الأعذار.
كلما حاولت الاستفسار، كلما زادت شكوكهم تجاه إداراتي وعملتي. كنت أشعر أنه قد تم التلاعب بي وأنني كنت ضحية لألعابهم الماكرة والمضللة. بمرور الوقت، بدأت أستنتج أن الأمور لم تكن كما تبدو وأن هناك شيئًا غير صحيح. كان هناك قلق دائم في تفكيري حول مصير الشركة وما يحدث خلف الكواليس، مما زاد من توتري. كانت لديّ رغبة قوية في فهم كل ما يجري، وبذلت مجهودات مضاعفة لأكتشف الحقيقة، لكن كمعركة مع طواحين الهواء، كانت الأمور تسير بتعقيد أكبر مما توقعته.
عندما علمت بخسائر الشركة التي كانت تتصاعد بشكل مثير للقلق، شعرت بصدمة كبيرة وخيبة أمل عميقة. كانت المؤشرات تشير بوضوح إلى نمو مستمر ونجاح عام، مما جعلني أشكك في صحة تلك الإنجازات التي كانت تُعرض بشكل مبهر. كان من الصعب تصديق أن ما يبدو ناجحًا من الخارج هو في الواقع مجرد واجهة تخفي وراءها مشاكل داخلية خطيرة. في ظل هذه الظروف المعقدة، حاولت الاستقصاء عن الوضع المالي الحقيقي للشركة، لكنني واجهت عدم وضوح في الإجابات التي حصلت عليها، حيث كانوا يتجنبون تقديم أي توضيحات شاملة، مما زاد من شعوري بالشك والخوف حيال وضعي داخل العمل وجعلني أشعر وكأنني ضحية لمؤامراتهم وتلاعباتهم.
مع مرور الوقت، أصبحت مخاوفي تتعاظم بخصوص مصير الشركة واستمرارها، مما زاد من توتري وإحساسي بالعجز. رغم محاولاتي المستمرة لفهم الوضع، كانت الأمور أكثر تعقيدًا مما توقعت. قررت الإدارة تعيين محضر يقدم حسابات مغلوطة، وطلبوا مني التوقيع على تلك المحاضر، مهددينني بالطرد من العمل إذا ما رفضت ذلك. كان هذا صادمًا للغاية، خاصة أنني كنت أعتمد اعتمادًا كبيرًا على راتبي لتلبية احتياجات عائلتي وتوفير مستلزماتهم الأساسية. كانوا يدركون تمامًا أن اللجوء إلى القضاء لتحقيق العدالة هو خيار صعب ومعقد ويستغرق وقتًا طويلاً، مما أضاف طبقة من الضغط الرهيب على كاهلي. كنت ملتزمًا بشكل كامل ماليًا، وفكرة فقدان عملي وتبعاتها السلبية أثارت مخاوف عميقة بشأن مستقبلي ومستقبل عائلتي.
تمت معاملتي كوكيل ثانٍ، حيث طلب مني التوقيع على وثائق متعددة تتعلق بالموقف المالي، ورغم رغبتي الشديدة في الاطلاع على تلك الوثائق بسبب غيابي عن العمل في بعض الفترات، إلا أنهم رفضوا بشكل قاطع أن يتيحوا لي قراءتها، مما دفعني للتفكير في عدم التوقيع. في محضر عزلي، قام الأخوان بالتوقيع على الحسابات المغلوطة دون وجودي، ودون استيفاء النصاب القانوني اللازم لذلك. بعد تلك الأحداث المؤلمة، قررت مغادرة العمل وقمت بتوكيل محامٍ لفتح قضية من أجل معارضة تلك الحسابات التي كانت تقدم بشكل غير صحيح في عام 2009، ولكن للأسف لم يُبت فيها حتى الآن. ثم في العام 2012، قدمت قضية ثانية تطالب بتعيين مؤتمن عدلي، والذي تم تعيينه بعد جهد كبير في عام 2015. فيما بعد، في عام 2021، تقدمت بقضية ثالثة للمطالبة بحسابات الشركة للفترة من 2018 إلى 2020، حيث أثبتت الأبحاث وجود تلاعب وفوضى وسرقة وخيانة من جانب الوكيل المسؤول.
هذه الأحداث قد أثرت بشكل كبير على حياتي المهنية والشخصية، حيث تركت لي تجارب مريرة وشعورًا بالانعدام الأمان وعدم الثقة في النظام الذي يفترض أن يحمي حقوق الأفراد، مما أدى إلى تفاقم ضغوط الحياة اليومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق